من أكثر الجوانب المظلمة التي قلّما يتناولها المؤرخون بشكل مباشر مسألة الإجهاض في البلاط العثماني، وخاصةً حين كانت بعض الجواري تحملن من أبناء السلاطين وهم لا يزالون أمراء يعيشون داخل قصر والدهم السلطان الحاكم. كان هذا الأمر في غاية الخطورة، لأنه يهدد نظام الوراثة القائم على صرامة القوانين داخل البيت العثماني، ولأنه يخلق إمكانية وجود "أبناء غير شرعيين" لا يُعترف لهم بمكانة سياسية أو شرعية
داخل الحريم، حيث كان يُفترض أن كل علاقة تخضع للرقابة الشديدة، كانت تنشأ علاقات خفية بين الجواري والأمراء الشباب. هؤلاء الأمراء لم يكن لهم الحق في الزواج أو الإنجاب أثناء حياة والدهم السلطان، فقد كان ذلك امتيازًا محصورًا في السلطان وحده. ولذلك، إذا حملت جارية من أحد الأمراء، فإن مصيرها غالبًا ما كان مأساويًا: إما الإجهاض القسري، أو الإخفاء التام للحمل حتى يتم إنهاؤه بطرق طبية تقليدية كانت سائدة في ذلك الزمن
قوانين صارمة لمنع الأبناء غير المرغوب فيهم
كان الهدف من هذه القوانين الحفاظ على نقاء "سلسلة العرش" ومنع نشوء فروع جانبية قد تُطالب بالسلطة لاحقًا. لهذا السبب، كان على الجواري اللواتي يقعن في الحمل من أمراء شباب أن يواجهن خيارين قاسيين: الإجهاض الإجباري أو التصفية الصامتة. بعض المصادر العثمانية تلمّح إلى أن الجواري اللواتي حملن دون إذن أو من خارج إرادة السلطان قد يتعرضن للتسميم أو يُجبرن على شرب خلطات عشبية تؤدي إلى إسقاط الجنين
دور "القابلات" في القصور
في قلب هذه العملية كانت هناك نساء متخصصات يعرفن باسم "القابلات السلطانية". هؤلاء كنّ على علم بالوصفات الطبية التي تُستخدم لإجهاض الحمل في مراحله الأولى. كانت تُستخدم أعشاب مثل حشيشة الملاك والعرعر والشيح، وهي نباتات معروفة في الطب الشعبي بقدرتها على تحفيز النزيف الرحمي. كان يتم ذلك في سرية تامة، وغالبًا في غرف جانبية بعيدة عن أعين الحراس أو الخصيان السود الذين كانوا مسؤولين عن النظام الداخلي للحريم
شهادات الرحالة والمراقبين الأوروبيين
رحّالة مثل أوغيه غيسلان دو بوسبيك، السفير النمساوي في إسطنبول بالقرن السادس عشر، أشار إلى أن "الحريم السلطاني ليس كما يُصوَّر مكانًا للمتعة فحسب، بل هو ساحة سياسية مليئة بالدموع والأسرار والمواضع المظلمة التي تُمحى فيها حيوات قبل أن ترى النور". ورغم أن بوسبيك لم يذكر الإجهاض صراحة، إلا أن دراسات لاحقة ربطت بين وصفه لأحوال الجواري والقيود المفروضة عليهن وبين ممارسات الإجهاض القسري
الصراع بين الجواري والسلطنات
أحيانًا لم يكن الإجهاض ناتجًا عن قوانين السلطان فقط، بل عن مؤامرات داخلية. فالسلطانات الأمهات كنّ يتخوّفن من أن تُنجب إحدى الجواري من أمير شاب، ما قد يعطيه نفوذًا مستقبليًا في الصراع على الحكم. لذلك، كانت بعضهن يتدخلن سرًا لفرض الإجهاض على الجواري المنافسات. هذا ما أشارت إليه بعض الدراسات حول السلطانة كوسَم والسلطانة صفية، إذ إن كل واحدة منهما كان لها نفوذ في الحريم، وكانت حريصة على ألا يولد أطفال من أبناء لا تسيطر عليهنّ
البعد الأخلاقي والديني
المثير أن هذه الممارسات كانت تتناقض مع الشريعة الإسلامية التي تعتبر الإجهاض بعد نفخ الروح قتلًا للنفس، لكنه كان يُبرَّر سياسيًا داخل البلاط باعتباره "ضرورة لحماية الدولة". وكان الفقهاء الرسميون يتجنبون الخوض في هذه القضايا علنًا، لأنهم كانوا يدركون أنها تُصنّف ضمن أسرار الدولة العثمانية
مأساة الجارية
يمكن تخيّل مأساة الجارية التي تجد نفسها حاملًا من أمير لا يستطيع الاعتراف بابنه. كانت تُجبر على تناول العقاقير، وقد تعاني نزيفًا طويلًا أو مضاعفات قد تودي بحياتها. وإذا رفضت أو حاولت الاحتفاظ بجنينها، فقد تواجه الموت المباشر بوسائل أكثر عنفًا. هذه القصص لا تُروى كثيرًا لأنها كانت تُطوى في صمت، لكن المؤرخين يلمحون إليها كجزء من "التضحيات القاسية" التي أبقت البيت العثماني متماسكًا
أمثلة تاريخية
-
الأمير مصطفى ابن سليمان القانوني: حين كان شابًا في قصر أبيه، قيل إن إحدى الجواري حملت منه، لكن الأمر انتهى بإجهاضها قبل أن يُعرف الخبر. هذه القصة وردت عند بعض المؤرخين الأوروبيين كإشاعة لكنها تعكس صورة متكررة.
-
في عهد السلطان أحمد الأول، تذكر بعض الروايات أن إحدى الجواري ارتبطت بابنه الأمير عثمان (الذي صار لاحقًا عثمان الثاني)، وحملت منه وهي لا تزال في القصر، لكن الحمل لم يُكتب له أن يكتمل.
السرية كقاعدة
كان كل ما يجري في الحريم السلطاني محاطًا بالسرية، ولذلك فإن أغلب ما نعرفه اليوم يأتي من روايات الرحالة الأجانب أو من وثائق محاكم إسطنبول التي كانت تتعامل أحيانًا مع قضايا تتعلق بوفاة جارية "بسبب مرض غامض" وهو في الحقيقة مضاعفات إجهاض. هذه السرية المقصودة جعلت الكثير من هذه القصص تضيع في طيات التاريخ، لكن وجودها لم يكن أمرًا نادرًا.
أثر هذه الممارسات على التاريخ العثماني
تكرار عمليات الإجهاض والإخفاء ساعد في منع نشوء فروع جانبية كثيرة من آل عثمان، وهو ما أبقى الصراع على السلطة محصورًا في عدد محدود من الأبناء الشرعيين. لكن في المقابل، ترك ذلك آثارًا إنسانية مأساوية على مئات الجواري اللواتي لم يُسمح لهن أن يكنّ أمهات، رغم أن حياتهن كانت مرتبطة بخدمة الأمراء والسلاطين.
✦ باختصار، كانت مسألة الإجهاض في الحريم السلطاني أداة سياسية أكثر من كونها قضية طبية أو أخلاقية. لقد كانت وسيلة لضبط السلطة ومنع الفوضى في البيت العثماني، لكنها تركت وراءها معاناة صامتة لنساء لم يُكتب لهن أن يخرجن من دائرة السرية والمحو.
0 commentaires:
Publier un commentaire