un

astuces

Blogroll

mercredi 17 septembre 2025

إخصاء الغلمان في الإمبراطورية العثمانية والحضارات الأخرى

 إنّ التاريخ الإنساني ليس فقط سلسلةً من الإنجازات والحضارات، بل هو أيضًا ميدانٌ لممارساتٍ قاسية تعكس تعقيدات المجتمعات القديمة وصراعاتها. ومن أبرز هذه الظواهر التي انتشرت في الشرق والغرب عبر قرونٍ طويلة، ممارسة إخصاء الغلمان، أي تحويل الفتيان إلى "خصيان" يُستخدمون في القصور، والجيوش، والمناصب الإدارية، وحتى في الخدمة الدينية.

لقد ارتبطت هذه الممارسة بمفاهيم متناقضة: من جهةٍ كان يُنظر إلى الخصيّ باعتباره رمزًا للولاء والقدرة على خدمة السلطة بلا تهديد، ومن جهةٍ أخرى كانت العملية في ذاتها مؤلمة وقاسية، وتُعدّ انتهاكًا صارخًا للإنسانية




أوّلًا: جذور الممارسة وبداياتها

تعود جذور إخصاء الغلمان إلى حضاراتٍ قديمة مثل الصين القديمة وآشور وبابل، ثم واصلت انتشارها في الإمبراطورية البيزنطية والعباسية، وصولًا إلى الإمبراطورية العثمانية.
في الصين، كان الخصيان يُستخدمون في القصور الإمبراطورية منذ آلاف السنين، حيث اعتُبروا أكثر أمانًا على الحريم الملكي، كما مُنحوا سلطةً كبيرة في إدارة شؤون الدولة.
أما في الشرق الأوسط، فقد انتقل التقليد عبر الدولة الأموية ثم العباسية، حيث كان الخلفاء يحيطون أنفسهم بخدمٍ من الخصيان الذين لم يكن يُتوقّع منهم أن يُنافسوا أو يُهدّدوا النسب الشرعي.


ثانيًا: انتشار الممارسة في الإمبراطورية العثمانية

في الدولة العثمانية، وصل إخصاء الغلمان إلى مستوى مؤسّسي من التنظيم. فقد اعتمد السلاطين على الخصيان، خصوصًا الخصيان السود الذين جيء بهم من أفريقيا، ليكونوا حُرّاسًا للحرملك (أي جناح النساء في القصر السلطاني).
كان يُنظر إلى هؤلاء الخصيان باعتبارهم أكثر الأشخاص أمانًا، إذ لا يمكنهم إقامة علاقات مع الجواري أو التأثير على نقاء النسب العثماني. إضافةً إلى ذلك، لعبوا أدوارًا إداريّة مهمّة، وأصبح بعضهم من أصحاب النفوذ الكبير في البلاط، حيث وصلت سلطتهم أحيانًا إلى التحكم في قرارات السلاطين.


ثالثًا: من الذين كانوا يُخصَون؟

عادةً ما كان يُختار الغلمان لهذه العملية من الفتيان الذين أُسروا في الحروب أو جُلبوا عبر تجارة الرقيق.

  • في الصين: غالبًا ما كان الفقراء يبيعون أبناءهم ليُخصوا ويعملوا في البلاط الإمبراطوري أملاً في تحسين وضع العائلة.

  • في العالم الإسلامي الوسيط: كان الغلمان يُؤخذون من أفريقيا أو القوقاز أو غيرها من المناطق الطرفية.

  • في الإمبراطورية العثمانية: جُلب معظم الخصيان السود من السودان وإثيوبيا عبر تجارة الرقيق.

هؤلاء الفتيان كانوا عادةً صغار السنّ، ليكون من السهل إخضاعهم للسيطرة والتنشئة داخل منظومة القصر.


رابعًا: من الذي كان يقوم بالعملية؟

لم يكن الإخصاء يُجرى بيد أطباء رسميين في كثير من الأحيان، بل كان يتم عبر أشخاص مختصّين في تجارة الرقيق، خصوصًا في المناطق الأفريقية أو الشرقية حيث كان يتم تجهيز الغلمان قبل إرسالهم إلى البلاط.
كانت العملية تتم في ظروف بدائية، ما يؤدي إلى وفاة نسبة كبيرة منهم نتيجة النزيف أو الالتهابات.
ومع ذلك، فإن الذين ينجون من العملية كانوا يُعتبرون "مؤهلين" للخدمة، إذ أصبحوا غير قادرين على الإنجاب، وهو الشرط الأساسي لقبولهم في قصور الملوك والسلاطين.


خامسًا: الأدوار الاجتماعية والسياسية للخصيان

رغم قسوة التجربة، فإن بعض الخصيان ارتقوا إلى مراكز عالية من النفوذ. ففي البلاط العثماني مثلاً، كان كبير الخصيان السود (المعروف باسم "قزلر آغا") شخصيةً محورية، يتحكم في الوصول إلى الحرملك، ويملك تأثيرًا مباشرًا على السلطان.
كما أنّ بعض الخصيان في الصين والعباسيين لعبوا أدوارًا سياسية حاسمة، حتى وصل الأمر أحيانًا إلى أن يُديروا الدولة بأكملها.


سادسًا: الموقف الديني والاجتماعي

أثارت هذه الممارسة نقاشاتٍ دينية وأخلاقية عبر العصور. ففي الإسلام، كان إخصاء الإنسان ممنوعًا، ومع ذلك انتشرت الظاهرة بغطاء واقعي مرتبط بالعبودية وتجارة الرقيق. أما في الصين، فقد كانت مقبولة اجتماعيًا ودينيًا إلى حدّ كبير.
وفي المجتمعات التي عاش فيها الخصيان، وُجد تناقض صارخ: فبينما كانوا يُحرَمون من الرجولة الكاملة، كانوا في الوقت ذاته يتمتعون بسلطةٍ تفوق سلطة كثيرٍ من الرجال الأحرار.


سابعًا: تراجع الممارسة ونهايتها
مع صعود القوانين الحديثة في القرنين التاسع عشر والعشرين، بدأت هذه الممارسة بالانقراض

في الدولة العثمانية، انتهى دور الخصيان مع انهيار السلطنة وإلغاء نظام الحرملك في بدايات القرن العشرين.
في الصين، استمرت الممارسة حتى سقوط أسرة "تشينغ" عام ١٩١٢، حيث سُجّل آخر خصي رسمي في القصر الإمبراطوري.
أما في بقية العالم، فقد تلاشت الظاهرة تدريجيًا مع نهاية تجارة العبيد وظهور مفاهيم حقوق الإنسان.

الخاتمة

إنّ ظاهرة إخصاء الغلمان تكشف عن جانب مظلم في تاريخ البشرية، حيث امتزجت السلطة بالجَمال والعبودية والسيطرة الجسدية. لقد كان الغلمان الخصيان أدوات في خدمة الملوك والأباطرة، لكنهم أيضًا لعبوا أدوارًا فاعلة في تشكيل القرارات السياسية والمصائر التاريخية

ويبقى السؤال الذي يثير فضول الباحثين والجمهور اليوم

  • هل كان يمكن للحضارات القديمة أن تُبنى من دون هذه القسوة؟

  • وهل كان الجَمال والسلطة يستحقان هذا الثمن الباهظ من إنسانية الأطفال؟

  • وكيف يمكن لنا أن نقرأ هذه الممارسات اليوم في ضوء حقوق الإنسان وكرامة الجسد؟

0 commentaires:

Publier un commentaire