من هو سليم وما مكانة نوربانو؟
كان سليم الثاني (ت. 1574) سلطانًا يشتهر بأنه أقلّ انغماسًا في إدارة التفاصيل وأكثر اعتمادًا على صدره الأعظم سوقولو محمد باشا، وهي صورة يثبتها تأريخ عام موثوق كـ«الموسوعة البريطانية». هذا لا يعني غياب إرادته، لكنه يضع علاقته بنسائه ضمن بنية حكمٍ يُفوَّض فيها الكثير للـ«رجال الأمانة» ولشبكة الحرملك. أما نوربانو فظهرت أوّلًا في حرملك الأمير سليم وهي أمُّ ابنه الأكبر مراد (1546)؛ وستصبح لاحقًا «والدة السلطان» الأقوى في مطلع «عصر والدة السلطان». الجدل حول أصلها (فينيقية/فينيسية أو يونانية/كورفو…) معروف في الأدبيات، وأوثقه بحث بنيامين آربِل الذي فكّك الأساطير وصحّح كثيرًا من المرويات الرائجة. محبّة» داخل منطق البلاط
أقوى الشواهد تأتي من تقارير سفراء البندقية (relazioni) الذين راقبوا الحرملك عن قرب. ينقلَ لنا عملُ ليزلي بيرس الكلاسيكي «الحرملك الإمبراطوري» أنّ سفيرين فنيسيين وصفا مكانة نوربانو لدى سليم بعبارات صريحة: ياقوبّو سُورانتسو (1566) كتب أنّ «الخاصكي… يُقال إنّها محبوبة جدًّا ومُكرَّمة لدى جلالته لما لها من جمالٍ كبير وذكاء غير مألوف»، وبعد سبع سنوات أكّد أندريا بَدوارو (1573) أنّها «ما تزال تُدعى الخاصكي وهي محبوبة لدى جلالته». هذه ليست عبارات مجاملة؛ فـ«محبوبة جدًّا» في لسان تقارير البلاط تعني تفضيلًا فعليًّا ينعكس في النفوذ والرواتب والمخاطبة والوساطة
هل تزوّجها سليم حقًا؟
في 1571 بعث البايلو (السفير) ياكوبّو راغاتسوني تقريرًا قال فيه إن سليم عقد زواجًا على نوربانو وقدّم لها «جهازًا» (دوطة) معتبرًا—وهو خبر استشهدت به ماريّا بيا بِداني في دراستها المرجعية عن بيوت الحرملك والدبلوماسية الفينيسية. هنا يُشدّد المؤرخون على أمرين: (1) أن تقارير البندقية تُسجِّل ما يتسرب إليها من البلاط أحيانًا بتهويلٍ أو عبر وسطاء، (2) وأن المصادر العثمانية الرسمية صامتة حيال زيجاتٍ مماثلة (بل سكتت حتى عن زواج سليمان القانوني بهُرّم في العقد السابق). لذا يميل الباحثون اليوم إلى القول إنّ زواج 1571 «رُويَهُ السفراء ولم تُثبته السجلات العثمانية»—لكنه على أي حال يشهد لفرط مكانة نوربانو في قلب البلاط وعين السفراء.
أين أقامت نوربانو في عهد سليم وما دلالة ذلك؟
خلافًا للصورة الدرامية الشائعة، تُفيدنا كارولاين فينكل بأن انتقال نوربانو من «السراي القديم» إلى «طوبقابي» احتُفي به بموكبٍ علني بعد اعتلاء ابنها مراد للعرش (أي بعد وفاة سليم). هذا يرجّح أنها قضت معظم عهد سليم في «السراي القديم» بحسب العُرف، ثم عادت إلى «القصر الجديد» بوصفها والدة السلطان—في مشهد إضفاء شرعيةٍ شعائري قوي. لا ينفي ذلك محبّة سليم لها؛ بل يؤكد أن العُرف المؤسسي ظلّ غالبًا باستثناء حالة هُرّم الاستثنائية مع سليمان
نفوذ يتجاوز العاطفة: رعايةٌ ومراسلات ومنافع
قوة نوربانو ظهرت أكثر في أواخر عهد سليم وبداية عهد مراد: شبكة علاقاتٍ ناعمة مع البندقية، ورسائلُ و«كِيرا» يهوديّات وسيطات (أشهرهن إستير هندَلي)؛ وقد نشر سوزان سكيلِّتر نصوصًا من مراسلات «السيدة الفينيسية» كما سماها الأوروبيون، ودرسَ بنيامين آربِل صورتها «كسلطانة فينيسية». هذه الشبكة لم تكن «حبًّا سياسيًّا» بل سياسةً محكومة بمصالح عثمانية–فينيسية: تأمين طرق التجارة، وموازنةِ النفوذ الإسباني–الجنوي، وتدبير الهدايا والوساطات. فهي دلالة على أنّ تفضيل سليم لها منحها منصّة، لكنها أحسنت استثمار المنصّة لصناعة سياسة نافعة للدولة ولذاتها معًا
سليم… المُفوِّض الكبير، ونوربانو… «الخاصكي» الثابتة
تعرض «الموسوعة البريطانية» صورةً لسليم كحاكمٍ يترك الإدارة اليومية لصدره الأعظم، وهو ما ينسجم مع شهادةٍ متواترة في المصادر العثمانية والأوروبية. ضمن هذه البنية، يصبح «الحُبُّ البلاطي» قابلاً للقياس بمؤشراتٍ مثل: الثبات في صدارة الحرملك، الاستماع للمشورة، وإعلاء حظوة الأمّ التي تحمل ولاية العهد (أمّ الأمير الأكبر). وكلّها تحققت لنوربانو. لذا يصعب ردّ مكانتها إلى «ذكائها وحده» أو «نسبها المزعوم» دون الاعتراف بأن السلطان نفسه كان يرى فيها اختيارَه الأول، على الأقلّ في لغة البلاط.
لحظة الانتقال: «ثلج» الجثمان ومعنى الولاء
من أشهر الحكايات التي ترد في مصادر بحثية حديثة أنّ جسد سليم الثاني حُفِظ على الثلج أيّامًا إلى أن دخل مراد الآستانة واستتبّت البيعة؛ تَرِدُ هذه المعلومة في منصّاتٍ بحثية مثل Politika (الموسوعة الفرنسية المفتوحة حول العثمانيين)، وهي تُقرأ اليوم كإشارةٍ إلى حنكة الدائرة القريبة من نوربانو وقدرتها على إدارة أخطر دقائق الانتقال كي لا تنفلت الأمور وتُفتَح أبواب الفتن. سواءٌ أشرفت نوربانو شخصيًّا على هذا التدبير أو تولّاه رجال البلاط، فالواقعة تشهد لقيمة «الولاء للعهد» عندها ولدى شبكتها—وهو وجهٌ من وجوه المحبّة السياسية لزوجها الراحل و«قضيّته» (ولاية ابنه)بين «الحب» و«المنفعة»: كيف يقرأ المؤرّخون العلاقة؟
يُحذّر مؤرّخو الحرملك، وفي طليعتهم ليزلي بيرس، من إسقاط مفاهيمنا الحديثة عن الحب والزواج على نظام الجواري العثماني. «المحبّة» هناك تُقاس بالتفضيل والاستمرار والقدرة على الوساطة، لا بالعلنية الرومانسية. وفي هذا الميزان خرجت نوربانو بصورة «المحبوبة جدًا» وبمنزلةٍ لم تنلها امرأةٌ في عهد سليم سواها، حتى إنّ بعض السفراء سمعوا عن زواجٍ شرعي (وهو، حتى لو كان مبالغًا فيه، يشي بفرط خاصّيتها). ثم إنّ انتقالها إلى موقع «والدة السلطان» فورًا، واحتفاءَ المدينة بعودتها إلى طوبقابي، وبدء رعايةٍ عمرانية جبّارة (مجمّع أتيك والده في أُسكُدار لسنّان) كلها حلقاتٌ في سلسلة امتيازٍ بدأت وهي «حَظِيّة سليم» واستمرّت وهي «أمّ مراد». إنّها قصّة تداخلٍ بين العاطفة والسلطة على طريقة إسطنبول القرن السادس عشر
عن «غيرة» الحرملك وصراع المواقع
لا تكتمل الصورة دون ذكر خصومتها الشهيرة مع صافيّه خاتون (حظية مراد ثم زوجته لاحقًا). في هذه الخصومة نرى كيف تحمي نوربانو «تركيبة السلطة» التي ترى أنها أصلح للدولة والأسرة—منعُ الأحادية مع صافيّه، وحَثُّ مراد على التعدّد لسلامة التعاقب. هذه السياسة تعكس فهمًا تقليديًّا لفقه السلالة، وتُظهر أن نوربانو كانت تنظر إلى «الحبّ الخاص» بوصفه تابعًا لـ«المصلحة السلطانية» لا العكس. هنا أيضًا تعوِّل الدراسات على تقارير السفراء ومرويات البلاط أكثر من النصوص العثمانية الرسمية
النهاية وصداها
تُجمع المصادر على وفاة نوربانو في 7 كانون الأول/ديسمبر 1583، وتُكثر الروايات الأوروبية من إشاعات «السمّ» على يد خصومٍ جنويين أو عبر دوائر الحرملك—رواياتٌ تتعامل معها الدراسات الحديثة بحذر شديد. الأكيد أنها دُفنت إلى جوار سليم في تربة آيا صوفيا، وأنّ صورة «الوالدة الملكة» التي كرّستها ظلّت فاعلةً بعد موتها قرونًا؛ ويكفي أن مجمّع «أتيك والده» بقي شاهدًا على سُمعتها بوصفها راعيةً مقتدرة، وهي سُمعةٌ لا تُبنى بغير رأس مالٍ رمزي جمع بين محبةٍ ومكانة
خلاصة الحكم
إذا أردنا جوابًا مباشرًا على سؤالك «هل كان سليم الثاني يُحبّ زوجته (حظيّته) نوربانو؟» فالأقرب تاريخيًّا: نعم، بالمعنى البلاطي—أي التفضيل والاعتماد والتمكين—لا بالمعنى العاطفي الرومانسي الخالص. الدليل الأقوى: تقارير السفراء التي تصفها «محبوبة جدًّا»، استمرارها «خاصكي» مفضّلة حتى أواخر عهده، رواية الزواج المبلَّغة سنة 1571 (مع التحفّظ النقدي)، ثم المكانة الاستثنائية التي دخلت بها عهده الأخير وعبور الخلافة إلى ابنها من دون ارتجاج. ومع شخصية سليم التي فوّضت كثيرًا من شأن الحكم إلى سوقولو، تبرز نوربانو بوصفها الحلقة العاطفية–المؤسساتية الأهمّ في بيته؛ حظوةٌ بدأت زوجةً محظيّة وانتهت «والدةَ سلطان» راعيةً وفاعلة.
0 commentaires:
Publier un commentaire