قصر العبدلية

في المرسى ثلاثة قصور يسمى كلّ واحد منها "العبدلية" وتسمى ثلاثتها مجموعة "العبدليات". ذكرها المسعودي في "الخلاصة النقية" بقوله: "القصور الشاهقة والبساتين الشهيرة بالعبدلية" وقد ذكر هذا المؤرخ الأديب أنّها من آثار أبي عبد اللّه الحفصي الذي كانت ولايته صدر القرن العاشر عند تضعضع الدولة الحفصية. ومن العجائب أنّ هذه "العبدليات" مع اشتهارها وضخامة شأنها لم يذكرها واحد من المتقدّمين عدا صاحب الخلاصة النقية. وهذه القصور معروفة بالمرسى مذكورة في الأدب والتاريخ وكتب الآثار والمخططات، وقد شاع ذكرها شعرا ونثرا في العصر الحسيني على أقلام الورغي والمسعودي وبيرم الرابع بالافراد مرّة "العبدلية" وبالجمع أخرى "العبدليات" 

وهي ثلاثة قصور متقاربة، بين البساتين والآبار والجوابي، أحد هذه القصور متّصل بحد السفح الشمالي لجبل المنار ويعرف الآن باسم "الحفصي"، والثاني هو الذي أقيم عليه قصر الملك الحسيني أحمد باشا الثاني قبالة مقهى "الصفصاف" وإلى جانب الجامع الكبير بالمرسى، والثالث ويسمى "العبدلية الكبيرة" هو الواقع وراء دار البريد والحديقة العمومية بالمرسى في الجهة الغربية منها قرب الحي المسمى "الأحواش". أمّا العبدليتان الأوليان بالحفصي والصفصاف، فلقد دخلا منذ القرن التاسع عشر في القصور الملكية، وتغيّرت صورتهما، وأقيم قصران على غير طرازهما القديم. فالحفصي كان للملك الحسيني علي الثالث، وأسكنه بناته وبنيه، وهو الآن في حوزة حفيده السيد سيف اللّه بن إسماعيل. وقصر الصفصاف كان امتلكه جوزاف رافو الايطالي من رجال دولة الباي أحمد الأوّل (المشير) ثمّ ملكه علي الثالث وأسكنه أبناءه، واختصّ به ابنه الباي أحمد الثاني، فبنى فيه مباني كثيرة هي اليوم تحت تصرف بلدية المرسى. ولم تبق لهاتين العبدليتين أهمّية أثرية نظرا إلى التغيير الكلّي الذي دخل عليهما، إلا بما عسى أن يكشفه الحفر عن أسسيهما أو الوقوف على رسوم الملكية المتسلسلة لهما إذا وجدت في خزينة أملاك الدولة أو دفترخانة الأملاك العقارية 

وأمّا العبدلية الكبرى فهي ذات الأهمية الفائقة التي لا نظير لها في كامل بلاد المغرب العربي، وهي باقية إلى الآن على وضعها القديم لم يدخل عليها إلا تغيير يسير في بعض النواحي، لا يصعب بحال إرجاعه إلى أصله. وإنّنا إذا استثنينا قصر الحمراء بغرناطة، فلا نجد في المغرب العربي بناية على حالها تمثّل طراز المباني السكنية الفخمة قبل العصر التركي غير هذا القصر، وهو قصر العبدلية الكبيرة بالمرسى. فإنّه وإن كان من آثار القرن العاشر، فإنّه على أيّ حال جاء مغربيا حفصيا قبل أن يتأثر فن العمارة فيه بالمؤثرات التي دخلت عليه في النصف الأخير من القرن العاشر باستقرار الحكم التركي. وإنّنا لنعجب للمستشرق جورج مرساي، كيف أبدى الأسف من جهة لأننا لا نجد مبنى من المساكن الخاصة في العهد الحفصي وما قارنه من الملك المريني بالمغرب الأقصى والملك الزياني بالجزائر إلا أطلالا بالية أو أخبارا واردة في الكتب، ثمّ يثبت لنا أنّه وقف على قصر العبدلية وألمّ بوصفه ونشر صورته وأثبت نسبته إلى العهد الحفصي، ومع ذلك يدرجه في آثار العصر التركي مع قصور باردو وقصور منوبة وقصر الحكومة بالقصبة، بل لا يتّخذه إلا مثالا لبيت تونسي في هذا الدور التركي 

وهذا القصر كان يحيط به بستان بنيت فيه الآن، من الجهة الجنوبية أمام القصر، المدرسة الاعدادية للبنات والمستشفى الجهوي بالمرسى على النهج المسمى اليوم نهج الطاهر صفر، وتقع في مقابلة القصر أمام واجهته بئر ثرة هي اليوم داخلة في حديقة المستشفى. وقد بقيت الجهة الخلفية للقصر واليمينية له، نعني الشمالية والشرقية، في أكثرها بستانا عموميا تابعا للبلدية حيث كان يقوم قوس عند مدخل البستان عند ابتداء شارع الاستقلال. أمّا الجهتان الأخريان فقد شيّدت فيهما مبان محدثة أكثرها مساكن بشارع الاستقلال ونهج الشيخ محمد عبده ونهج الأحواش ونهج عبد العزيز الشتيوي 

ويتركّب هذا القصر من دهليز يقع في الجهة الغربية الشمالية منه، يفتح إلى الجنوب، أمامه أقواس وله مدخل فخم عليه قبّة مدورة بداخلها نقوش زخرفية في الجصّ، على نحو ما هو في المعاهد الحفصية والمباني الأندلسية والمغربية في ذلك العصر. وإلى شرقي هذا الدهليز يقع القصر ممتدّ الواجهة إلى الجنوب في مقابلة السقيفة التي كانت مبنية على مدخل البستان على نهج الطاهر صفر اليوم. ويحتوي القصر على طوابق متراكبة ذات قاعات وأبهاء تحيط كلّها بحنايا وأقباء تتوسّطها بركة ماء مربعة يشبه وضعها شبها قويا بهو البركة بقصر الحمراء بغرناطة، وقد ردمت هذه البركة وغرست في وسطها نخلة. وكان هذا القصر من أوّل العصر الحسيني معدودا في القصور الملكية ويسمّى "سانية السلاسل" أو "برج السلاسل" لسلاسل كانت عند مدخله مشدودة إلى مدافع أفواهها مغروسة في الأرض. ولما سكن الباي محمد الثاني (المشير) بالمرسى أسكن في هذا القصر الوزير مصطفى خزنه دار، وكان للقصر وكيل خاص مكلف بالقيام عليه مثل سائر القصور الملكية 

ولما انتصبت اللجنة الدولية للمراقبة المالية سنة 1286هـ/1869م أسكن فيه الوزير خير الدين المتفقّد الفرنسي، إلى أن انتصبت الحماية الفرنسية وأصبح المتفقّد مديرا للمالية فبقي ساكنا فيه. ولمّا ولّي الباي محمد الناصر من 1325هـ/1907م إلى 1340هـ/1921م ملك هذا القصر وأسكن في جزء منه أحد أبناء الوزير مصطفى خزنه دار، وكان من خاصته، وبقي أكثر القصر خاليا 

وإنّ سكنى الملك أبي عبد اللّه الحفصي للمرسى وتعميره هذه القصور، مع علمنا بما كان عليه أمره وأمر الدولة في عصره، ليذهب بالفكر مذاهب في تقدير الظروف التي كان فيها اتخاذ أبي عبد اللّه هذه "العبدليات" مساكن له. أفلا تكون بساتين المرسى اشتهرت بأزهارها وأشجارها وكرومها ودواليها وبركها ونواعيرها حتى أغرت بنفسها الملك؟ و تكون القصور التي استجادها الأندلسيون ممّن سبقوا إلى سكنى المرسى قد آلت إلى الملك فعمّرها وفخّم شأنها وطاب له المقام فيها؟ أم أنّ الثروة التي زخرت بها خزائن أبي عبد اللّه بعد خوائها دفعت به إلى تجديد شيء ممّا كان لأسلافه في جنات أبي فهر، فبعد بمنتزهه عن مدينة تونس المكلومة المنكوبة إلى هذا الساحل الساحر، ينفض على شواطئه أكدام أنّ هدف وهمومه؟ أم أنّ هدف استصفاء الأموال بعد أن عرف مكان الحاجة إليها، دفع به إلى أن يضعها بمنجاة وأن يفكر في الفوز بنفسه وبها يوما ما إلى المشرق أو إلى المغرب؟ فإنّ بين عينيه أحاديث أسلافه الذين حين نزل بهم ما أعجزهم دفاعه، مهّدوا لأنفسهم سبيل الفرار موفرين أكثر ما يستطاع الابقاء عليه من المال والذخيرة. فالسلطان الحفصي قبله، وهو أبو يحيى بن اللحياني، كان قد باع كلّ ما في القصور الحفصية حتى الكتب، وجمع قناطر الذهب والفضة واليواقيت وارتحل بها إلى مصر، فأقام آمنا مكرّما في ظلّ الملك الناصر بن قلاوون حتى توفّي بالاسكندرية، وقد أدركه ابن بطوطة فيها ووصف طيب مقامه في "رحلته". أفلا يكون أبو عبد اللّه، وقد تخلّى تقريبا عن الملك لعروج وخير الدين، نازعا إلى إقامة هنيئة على شاطئ المرسى، تخامره فكرة الخروج عند الاضطرابات فيكون قد جمع أهله وماله لهناء حَلّه أو لأمن ترحاله؟ ومساعيه التي أثبتها التاريخ، لدى سلطان تلمسان ولدى سلطان مصر الغوري، والسّرّ الغامض الذي كان يكتنف سفارته إلى الغوري حتى حمل على قتل السفير كما ذكر ابن أبي دينار، لعلّ لذلك ارتباطا بهذه المقاصد. على أنّ في تراب المرسى سرا مدفونا، قد يكون له شأن قوي في إثارة هذه الشكوك والافتراضات 

Posted in: تراث تونسي