في التقرير الذي أعده خير الدين باشا التونسي والذي يتكون من 23 صفحة أورد جملة من الأحداث بداية من عام 1237هـ/ 1822م يبين فيها أن تونس كانت ولاية عثمانية وأن تلك الحوادث تمثل دليلًا على ذلك. وكان الهدف من هذا التقرير إقناع فرنسا ودول كثيرة في العالم بأنّ الاحتلال الفرنسي لتونس باطلاً من النّاحية القانونية، وأن على فرنسا الاعتراف بتابعية تونس للباب العالي. غير أن الأحداث تسارعت باتجاه تثبيت فرنسا لإقدامها في تونس، ولم تكن لا الأوضاع المحلية ولا الدّولية تساعد الدّولة العثمانية على المطالبة بتونس أو استخدام القوة العسكرية ضد فرنسا لإخراجها من البلاد. ونورد هنا بعض هذه الدلائل التي ذكرها خير الدين التونسي دليلًا على تابعية تونس للدّولة العثمانية
في عام 1822م أرسل محمود باشا سبع سفن حربيّة ثم أردفها باثنتين لإعانة الدّولة على حرب اليُونان، وفي سنة 1828م أرسل حسين باشا أسطولًا حربيًّا لإعانة الدّولة في حرب اليُونان، واحترقت هذه السفن مع سُفن أخرى من مصر والجزائر. وفي عام 1835م أرسل مصطفى باشا والي تونس هدية لقبطان باشا عند قدومه على طرابلس لنزعها من أيدي القرمانيّين، ثم طلب قبطان باشا الإعانة الحربية من تونس فأرسل والي تونس في تلك السّنة ثلاث سفن حربية وأتبعها بتسع سفن تجاريّة حملت 300 من الخيل.
وفي سنة 1839م طلب أحمد باشا والي تونس تقليده رُتبة مشير مع هدية فاخرة فأنعمت الدّولة عليه بذلك، ثم زادته نيشانًا آخر يُرسم في غطاء الرأس، ولم يزل معمولًا به عند ولاّة تونس حتى وقت متأخّر. وفي سنة 1840م أمرت الدّولة العليّة والي تونس أحمد باشا بالعمل بالتّنظيمات، وقُرئ أمرُها في موكب مشهور، غير أنّه طلب وقتا للعمل مع مراعاة ما يلزم من التّغيير بسبب عادات البلاد.
وفي سنة 1842م أرسل هدية فاخرة منها سفينة حربية و 250 ألف فرنك وطلب الإمهال في العمل بالتّنظيمات. وفي سنة 1841م لما رتّب الوالي المذكور أمر تنظيم المولد النّبوي والاحتفال به أشار عليه أحمد بن أبي الضياف أن يخرج من باردو راكبًا، وأنّ عندهم من العساكر ما يكفي لأن تمتدّ بين باردو وجامع الزّيتونة فردّ عليه الوالي بأن من يفعل ذلك هو السّلطان العثماني وليس لهم أن يفعلوا مثله، فالمُناسب الأدب معه. وفي عام 1854م أرسل أحمد باشا 14 ألفًا من العَساكر بجميع يلزمهم من الضّروريات الحربية وفرقاطة شراعيّة وستّ سفن منها باخرتان لإعانة الدّولة العثمانية في حرب القرم. وفي سنة 1855م أرسل ابن عمّه محمد باشا عندما أصبح واليا على تونس أربعة آلاف رجل وخيْلًا ومهمّات حربيّة. وفي سنة 1864م أرسلت الدّولة العثمانية مبعوثا خاصًّا اسمه حيدر أفندي للنظر في موضوع التمرّد الذي حدث بالبلاد التّونسية، وأُرسل إلى الحُكومة التونسية مبلغ مليونيْ فرنك لمساعدتها على الخروج من الأزمة الاقتصادية التي ألمّت بها. وفي عام 1871م أُبرم الفرمان المعروف والذي بموجبه تجدّد تونس اعترافها بالتبعية للدولة العثمانيّة وتظهر ذلك علنًا في جملة من العلامات مثل قراءة الخطبة باسم السلطان، وضرب السكة باسمه وإعانة الدولة بالجيش والرّجال عند الحجة ورفع اللّواء العثمانيّ.
وفي سنة 1876م أرسلت الإيالة نحو مليون ونصف فرك لإعانة الدولة على حرب الصّرب، وفي سنة 1877م أعدّت الولاية نحو ذلك المقدار لكنّه لم يصل منه إلى خزانة الدّولة العثمانية إلاّ أقل من الرّبع، والباقي صُرف منه على تهيئة العساكر التي بلغ عددها نحو أربعة آلاف في كسوتهم، وتقرر إرسالهم، إلا أن اتفاقية الصّلح أبرمت قبل سفرهم وهم في انتظار سفن الدّولة العلية لحملهم، إذ لم يكن للحُكومة التّونسية قدرة على ما تحملهم عليه، كما أرسلت الولاية في تلك السنة نحو 600 بغل و400 حصان، أمّا ما زاد على ذلك ممّا جمعه الأهالي فقد بقي عند الحُكومة التّونسيّة.
ومن العلامات الأخرى التي أوردها تقرير خير الدين باشا ما كان يُتبادل من المُخاطبات بين تونس والباب العالي، وكذلك الرّسل والمبعوثون الذين كانوا يذهبون باستمرار إلى عاصمة السلطنة. وقد احتفظ لنا الأرشيف بعدد كبير من هذه المراسلات خصوصا ما كان منها في النّصف الأخير من القرن التّاسع عشــر. وقبل أحمد بك كانت المُراسلات باللغة التّركية، ثم بداية من عهده أصبحت تُكتب باللّسان العربي. وقد حمل هذه الرسالة من تونس إلى الآستانة عدد من العلماء والشيوخ ورجال السياسة المعتبرين أمثال الشّيخ إبراهيم الرياحي وأحمد بن أبي الضياف والجنرال خير الدّين التّونسي والجنرال رستم وغيرهم. وقد دوّن ابن أبي الضّياف في كتابه " إتحاف أهل الزّمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان" عددًا من هذه المراسلات إذ كان شاهدًا عليها إمّا من خلال كتابتها بنفسه، أو من خلال علمه بمحتواها لقربه من كواليس السّياسة ودروبها.
كما أورد الشّيخ محمد بيرم الخَامس في كتابه "صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار" عددًا من هذه المراسلات، وذكر من أرسل بها من البايات ومع من أُرسلت، ومواضيع الرّسائل والغاية منها. ويقول محمد بيرم الخامس في الصّفحة 146 من كتابه المذكور " والمكاتيب على هذا النّمط كثيرة، وكفى بإعلان الوُلاة في جميع مكاتيبهم الرّسمية بلقب التّشريف الذي منحتهم به الدّولة العليّة. وهذه السّياسة هي التي يدين بها أهل القطر التونسي كالاعتقادات الدّينية مع التمسك بالامتيازات الحاصلة (...) وإنما جلبنا ما تقدم بيانه - وإن كان الأمر غنيًّا عن البرهان - لِمَا شاع في أذهان بعضِ من لا خبرةَ لهُ بأنّ أحمد باشا شقّ عصا الإسلام وتبعه مَنْ بعده، وكادوا أن يلمِزُوا أهل تونس بالكفـر لرِضاهم بأعماله مع أنّه لم يأتِ شيئًا فريًّا، وغاية أمره التحفّظ على الامتيازات التي أوجدتها العادةُ ورَام أن يُحصلها رسميًّا جاء على غير الطريق المناسب، ولم يحصُل إلا إسقاط الأداء السّنوي".
لقد دأب عدد من المؤرخين التّونسيين على القول بأنّ تونس كانت عبارة عن دولة مستقلّة تتصرف بكامل الحرّية في شؤونها الدّاخلية وفي علاقاتها الخارجيّة مع الدّول الكبرى، أمّا الدولة العثمانية فلم يكن لها أيّ سلطان عليها. ونحن نعتبر أنّ هذا هذا الكلام نابع من موقف إيديولوجيّ أكثر مما هو حديث علميّ يستند إلى الدلائل التاريخيّة المقنعة. وقد توفّرت أمام أيدينا اليوم مصادر أصليّة عن تاريخ تونس توضح الأحداث على حقيقتها، ويجدر بنا أن نعيد قراءة تاريخنا اليوم قراءة علمية لا دخل للأهواء أو الإيديولوجيا فيها.
0 commentaires:
Publier un commentaire