«ذات ربيع، منذ ثلاث سنوات خلت، كان مجيئنا إلى تونس رائعا. كانت وما زالت مدينة كلاسيكية جميلة، رغم تشوهها بالشوارع الكبرى التي تخترقها، مدينة متسقة ومتناغمة. بيوتها البيضاء تبدو كأنها مضاءة في الليل بحميمية، مثل فوانيس مرمرية
ما إن غادرنا الميناء الفرنسي، لم نعد نرى شجرة واحدة. بحثنا عن الظل في الأسواق، كل الأسواق الكبيرة المقببة أو المغطاة بالقصدير والخشب، لا يخترقها إلا ضوء منعكس يكللها بجو خاص.
تكشف هذه الأسواق التحت أرضية عن مدينة ثانية داخل المدينة، شاسعة كما لو أنها تكون ثلث تونس.
لا نرى من فوق السطح، حيث ذهب «ب .ل» ليرسم، حدود البحر، باستثناء درج أسطح بيضاء تقطعها ساحات تشبه حفرا يتوارى فيها ضجر النساء. في الليل يصبح اللون الأبيض بنفسجيا، والسماء تصبح بلون هو مزيج من الوردي والأخضر. وفي الصباح يصبح الأبيض ورديا في سماء بلون بنفسجي خفيف. لكن بعد أمطار فصل الشتاء، تنبت أعشاب في الحيطان، يغطيها زبد أخضر فتظهر حواف الأسطح مثل سلة أزهار.
لقد تأسفت على تونس البيضاء، الجدية، الكلاسيكية في فصل الربيع، التي تدفعني إلى التفكير، في الليل، وأنا أتجول في شوارعها المنظمة. في «هيلين» يتجول فاوست الثاني في ممر مقبرة، و»الفانوس الزجاجي في اليد
يغرسون أشجارا في الشوارع الواسعة وفي الساحات. ستزداد تونس جمالا، لكن لا شيء يمكن أن يشوهها. منذ سنتين كان نهج «المرّ» وبطحاء «الغنم» مجهولي الوجهة، ولم يكن للشرق الأقصى وإفريقيا الأكثر سرية، كما أعتقد، أي طعم غريب أو مذهل. شكل من الحياة مختلف حيث كل شيء ينجز في الخارج، حياة جدّ ممتلئة، قديمة، كلاسيكية، ثابتة. ليس هناك أية تسوية بين حضارات الشرق وحضارتنا التي تبدو بشعة، خصوصا عندما تروم الإصلاح.
بدأت الصفائح الحديدية وقطع الزنك تعوض شيئا فشيئا سياجات القصب وأسقف الأسواق. المرايا العاكسة توزع بإزعاج الضوء على الحيطان حيث بدأ ينتشر منذ قليل نور الليالي. على بطحاء «الغنم» الكبيرة، التي بلا أرصفة، ساحة صامتة، رائعة، حيث منذ سنتين، كان يأتي العرب للنوم قرب قطيع الجمال في دفء الليالي المقمرة. لقد رصفوا الأسواق. في واحد من أجمل الممرات مدفونة قاعدة الأعمدة التي تسند القبة. جذوع الأعمدة الخضراء والحمراء لها تاج صلب ودقيق. القبة مصبوغة بالجير الأبيض، لكنه بالكاد يبدو ناصعا، وحتى في الأيام المشرقة، تبدو تلك الأسواق دائما نصف مظلمة.
جميل مدخل الأسواق، لا أتحدث عن رواق المسجد، بل عن المدخل الآخر، الضيق والمنزوي، المسقوف بشجر العناب المائل، فيشكل بذلك مدخلا ظليلا بممر صغير مظلم ينعطف انعطافة صغيرة، فيغيب عن ناظرنا. لكن شجرة العناب، المغطاة بالأوراق في الخريف، لا تكون مغطاة في الربيع. هذه هي بداية سوق السرّاجين. الممر ينعطف، ثم يستمر إلى ما لا نهاية.
في سوق العطارين، يجلس «صدوق عنون» دائما في دكانه الصغير الذي يشبه مأوى الكلب، بسقيفة ذات متكإ مرتفع، ومزدحمة بالقوارير. لكن العطور التي يبيعها اليوم مزيفة. أعطيت لـ «ب.ف» عند وصولي إلى باريس، آخر قارورتين حقيقيتين، رأيت صدوق عنون يملأها بنفسه بمستخلص التفاح والعنبر النفيس، قطرة، قطرة، بواسطة أنبوب. وهو اليوم لا يحيطها بدقة، وهي نصف مملوءة بسلعة أكثر شيوعا، بشمع بكر وبخيط أبيض، كما أنه لا يبيعها لي بثمن مرتفع. منذ ثلاث سنوات ودقّته تبهرنا.
فهي تعطي قيمة للأشياء. كلما أضاف كيسا أصبح ذلك العطر نادرا. وفي الأخير نضطر إلى إيقافه، فمالنا لا يكفينا.
لقد بحثت فعلا عن هذا المقهى المعتّم، حيث لا يجيء إلا الزنوج السودان العجّز. بعضهم له أذن مبتورة علامة على أنه عبد. معظمهم يحمل، وعمامته تغطي لدغة، باقة صغيرة من الورود البيضاء والياسمين الأرج . تشكل تلك الباقة مع الخد خصلة شعر رومانسية تعطي لمحيّاهم تعبيرا شهوانيا فاترا. إنهم يحبون عطر الورود إلى درجة أنهم أحيانا يدخلونه في أنوفهم على شكل تويجات مفروكة، دون أن يكون ذلك بمحض رغبتهم .
في هذا المقهى كان أحد الرجلين يغني والآخر يقص الحكايات، وحمامات تطير وتحط على أكتافهما.
تونس، في 7 مارس.
أطفال صغار يشاهدون ذلك، يضحكون ويرددون إيماءات الكاراكوز البذيئة،إنها رياضة ذهنية صعبة : أن يمرّنوا أنفسهم إلى أن يصبح ذلك أمرا طبيعيا ... جمهور من الأطفال، لا أحد غير الأطفال، أغلبهم صغار، فيما يفكرون ؟
الفرنسيون لا يذهبون إلى هناك. لا يعرفون الذهاب. دكاكين صغيرة لا طابع لها، نتسلل إليها عبر باب واطئ. الفرنسيون يذهبون بانتظام إلى بعض الأمكنة الفاخرة في الجوار، والتي لا تجلب إلا السياح بسبب بذخها. العرب يعرفون ماذا يفعلون. إنها أشياء بسيطة. فهذا حصان من كرتون، يرقص. وهذا جمل من خشب وقماش، يرقص أيضا، وهو أمر مضحك بكل تأكيد، لكن بطريقة سوقية. قريبا من هنا يقع محل اسمه كاراكوز، تقليدي، كلاسيكي، بسيط، لا وجود لدكان أبسط منه، يخلق تعاقدا مسرحيا رائعا، حيث يختبئ كاراكوز في وسط الخشبة بين حارسيْن يبحثان عنه، فهو لا يراهما لأنه مطأطأ الرأس، والأطفال يقبلون ذلك، يفهمونه ويضحكون .
كاراكوز، عبارة عن قاعة مستطيلة، حانوت صغير أثناء النهار، وفي الليل ينعم بالنشاط. خشبة صغيرة بستارة من القماش الشفاف تقع في مؤخرة القاعة لأجل إحداث الظلال. مقعدان طويلان على طول الجدران، هذه هي مقاعد الامتياز. يمتلئ وسط القاعة بأطفال صغار يقتعدون الأرض ويتدافعون. كنا نأكل كمية من حبوب البطيخ المجففة في الملح، وقطعة حلوى لذيذة إلى درجة أنه في كل ليلة لا شيء يبقى منها في جيبي، وفي الصباح أملأه بفلسيْن، لقد كنت أيضا أعطي منها للأطفال .
الممتع هنا، هو هذه الأعشاش التي في الحائط، وهي نوع من الأسرّة غير المريحة، أعشاش سنونو البحر، لا نستطيع الوصول إليها إلا باستعمال قوة اليدين، ومن حيث لا نستطيع النزول -يمكن أن نسقط منها- لا تكترى إلا لليلة كاملة لهواة سباق الثيران الشبان .
إلى هنا جئت عدة ليال، الجمهور هو نفسه تقريبا، في نفس الساحة، ينصت للعروض ذاتها، ويضحك في نفس المواضع، مثلي أنا. كاراكوز، دكان آخر، مجموعة من السودان، أين هم السودان؟ العرب لا يذهبون بطيب خاطر، إذن، هنا لا نرى إلا السود، لكني في هذه الليلة التقيت بصديقي « ر «.
لم يبدأ العرض بعد، (فترات الاستراحة هي دائما أطول بكثير من العرض لأن هذا الأخير لا يستغرق سوى ربع ساعة) أحد الزنوج يهز حيّات من نوع ذات الأجراس فيما آخر يضرب على طبل مستطيل، أما الثالث، الضخم، فيهتز ويتململ أمام «ر» وهو جالس أمام قدمينا تقريبا. كان يغني ويرتجل أغنية مأساوية مملة قيل فيها، حسبما فهمت، إنه فقير جدا، فيما « ر « غني جدا، والزنوج هم دائما في حاجة إلى المال. ولأنه كان عنيفا شيئا ما، ولأن العرب يدعون أنه لا ينبغي الوثوق في الجمل والزنجي والصحراء، فلم نتوان عن أن نصبح متصدقين .
كاراكوز، دكاكين أخرى،هنا يصبح العرض ذريعة لضرب المواعيد. دائما نفس الذين يقدمون العروض، من ليلة إلى ليلة، تحت عين رئيسهم العطوف، نتحلق حول طفل له جمال غريب يعزف على «المزود». الآخرون يتغزلون به . واحد آخر يضرب على طبل غريب له شكل مزهرية، قاعه مصنوع من جلد الحمار. الذي يعزف على المزود، يجمع المال في المقهى، يبتسم للجميع دون أن يعطي الامتياز لأحد. بعضهم ينشده أبيات شعر ويغنيها، فيجيب عليها، ويقترب. لكن كل ذلك ينحصر، كما أعتقد، في بعض الإطراءات أمام الكل. هذا الدكان ليس مكانا قذرا،بل هو ساحة للحب، أحيانا ينهض أحدهم ويرقص، أحيانا اثنان، يصبح الرقص إذن نوعا من الإيماء الحر.
يكاد العرض في الخارج، كما هو الأمر هنا، أن يكون دائما مخلاّ بالحياء. أريد أن أعرف تاريخ كاراكوز، لا بد أنه قديم جدا. قيل لي إنه ينحدر من «إسطنبول»، وأنه في كل مكان في القسطنطينية وتونس تمنع الشرطة الصعود فوق خشبات العرض، إلا في شهر رمضان. يستمر الصيام طيلة ثلاثين يوما من طلوع الشمس إلى غروبها. صوم مطلق، لا أكل، لا شرب، لا تدخين، لا عطور، لا نساء. بكل دلالات حرمان النفس طوال النهار، فيما يأخذ الليل شكل الانتقام، حيث يتم الترويح عن النفس بأقصى قدر ممكن. وبكل تأكيد هناك أيضا عرب متدينون جدا، يقضون ليل رمضان، بعد تناول وجبة زهيدة، في التأمل والصلاة. كما أن هناك أيضا من يستمرون في اللهو طوال النهار، لكن ذلك لا يحدث إلا في المدن الكبيرة التي يعتبرون فيها المسيحيين قليلي الأخلاق . العرب في أغلبيتهم يمارسون شعائرهم الدينية بدقة.
رحلة ... ، ص11-15
0 commentaires:
Publier un commentaire