عندما نتصفح صفحات التاريخ العربي المعاصر، نادراً ما نجد تجربة حكم تحولت فيها دولة “معزولة” جغرافياً واجتماعياً إلى نموذج استقرار وازدهار في أقل من جيل واحد. السلطان قابوس بن سعيد كان ذلك القائد الرجل الذي غيّر وجه عُمان، برؤية واضحة، قيادة حازمة، وأفق إصلاحي لم يكن مألوفًا في المنطقة
منذ اعتلائه العرش في عام 1970، أعلن قابوس بداية عهد جديد: عهد نهضة شاملة في البنية التحتية، التعليم، الصحة، الانفتاح على العالم والدبلوماسية الهادئة. وعُمان، التي كانت قبل ذلك تُشبه قرية كبيرة متناثرة، تحولت إلى دولة حديثة تستقطب الاهتمام الدولي وتُضاهي دولاً تجاوزت عمرها قرون.
في هذا التقرير سنستعرض كيف قاد قابوس هذا التحول، وما ملامح "سويسرا الخليج" التي أشارت إليها عدة كتابات دولية عند وصفها لعُمان في عهده
:أولاً: خلفية الوضع في عُمان قبل قابوس — من العزلة إلى نقطة الانطلاق
قبل عام 1970 كانت عُمان — وفق مصادر متعددة — دولة تعاني من نقص كبير في البنية التحتية: عدد محدود من المدارس، مستشفى أو اثنين، طرق ربط شبه معدومة ومناطق نائية تفصلها الصحراء والجبال.
الاقتصاد كان قائماً على الزراعة التقليدية والصيد، ومعظم السكان يعيشون حياة بسيطة، غائبين عن أنماط التنمية الحديثة.
كذلك، من الناحية السياسية والإدارية، لم تكن هناك مؤسسات دولة حديثة مثل الحكومة، الوزارات، مؤسسات التخطيط، أو إدارة مدنية منظمة.
هذه الخلفية توضح أن قابوس لم يستلم “دولة متعثرة” فحسب، بل أرضًا شبه جاهزة لإعادة البناء من الصفر — الأمر الذي جعل قراراته الإصلاحية مسألة حياة أو موت للمجتمع العُماني.
ثانياً: النهضة الشاملة إنجازات قابوس في البنية التحتية والخدمات
عند تسلّمه الحكم عام 1970 بعد الإطاحة بوالده في ما عرف بـ"انقلاب 23 يوليو" 1970، بدأ قابوس فوراً سلسلة من الإصلاحات التي حولت عُمان بشكل جذري.
أنشأ قابوس العديد من المدارس في مختلف المناطق، حتى في المناطق النائية، مما زاد من معدل معرفة القراءة والكتابة في السلطنة.
في 1986 أسّس Sultan Qaboos University كرمز للتعليم العالي، ما فتح آفاقًا لشباب عماني متعلم قادر على قيادة المستقبل.
في القطاع الصحي: تم بناء مستشفيات وعيادات في مختلف محافظات عُمان، وتدريب الكوادر العمانية لتقديم خدمات صحية حديثة، ما رفع مستوى معيشة المواطن وأدى إلى خفض الأمراض.
تم بناء شبكة طرق ربط شاملة بين مدن وقرى السلطنة. على سبيل المثال، الطريق الرئيسي المعروف N5 road (Oman) افتتح في عام 1974، وربط العاصمة مسقط بحدود الإمارات، ممهداً لتحوّل اقتصادي كبير في المناطق التي يمر بها.
تم تحديث وسائل النقل: موانئ جديدة، مطارات دولية، شبكات اتصالات حديثة، ما جعل عُمان أقل عزلة وأكثر اندماجاً مع العالم.
كما شملت جهود التنمية مشاريع لتحلية المياه والكهرباء، وتحسين مستوى الخدمات الأساسية في المدن والريف.
استُخدمت عائدات النفط لدعم مشاريع تنموية، وتحويل الاقتصاد من الزراعة إلى تنويع القطاعات: الصناعة، الخدمات، السياحة، التجارة، وتمكين القطاع الخاص.
أنشئت مؤسسات لدعم الشباب وريادة الأعمال، مثل صندوق دعم المشاريع الشبابية الذي ساهم في تمويل مشاريع صغيرة ومتوسطة بدأها عمانيون شباب.
هذه الإصلاحات رفعت جودة الحياة، زادت من الفرص الوظيفية، وخفّفت من الفقر والبطالة — ما مهد لتكوين طبقة وسطى صاعدة ومتعلمة.
---
ثالثاً: بناء الدولة الحديثة
السلطان قابوس أسّس أول حكومة مهيكلة (مجلس وزراء)، وأنشأ إدارات ومؤسسات: دفاع، خارجية، مالية، إدارة مدنية، ما أسّس نمط حكم عصري.
في 1996، صدرت أول دستور لعُمان، الذي شرّع وجود جهاز تشريعي استشاري، ومنح شكل من المشاركة السياسية عبر انتخاب أعضاء المجالس الاستشارية — ما أرسى دعائم شرعية مواطنة ولو بشكل محدود.
رغم أن السلطة بقيت مركّزة في العائلة الحاكمة، فإن قابوس أتاح مشاركة أوسع للمواطنين — من بينهم النساء — في بعض مؤسسات الدولة، ما شكّل تغييراً ثقافياً مقارنة بموروث العزلة الماضية.
رابعاً: سياسة خارجية حذرة ومكانة دبلوماسية مميزة
جزء كبير من لقب "سويسرا الخليج" يعود إلى ما ركّسه قابوس من سياسة خارجية معتدلة، متوازنة، ومستقلة:
فتح عُمان علاقات دبلوماسية موسّعة مع الدول العربية والعالم، وانضمت إلى منظمات دولية، ما أنهى عزلة السلطنة.
حافظت عُمان على علاقات طيبة مع دول متباينة سياسياً — حتى تلك المتأزمة مع بعضها في الخليج أو دولياً — ما جعلها منصة لحوار ودبلوماسية ناعمة.
على مدى سنوات، استخدمت عُمان نفوذها كوسيط أو قناة تفاهم في قضايا إقليمية ودولية، الأمر الذي أكسبها احتراماً دولياً ومكانة متميزة.
بهذا، أصبحت عُمان — تحت قيادة قابوس — مثالاً لدولة مستقرة، محايدة، ومحبوبة دولياً، يشبهها كثيرون بدول مختارة مثل سويسرا في استقرارها وحيادها.
---
خامساً: بناء هوية وطنية بين التقاليد والانفتاح
مع التحديث لم تنسَ عُمان تراثها: السلطان قابوس اهتم بالحفاظ على الثقافة العُمانية، التراث، الفنون، والحرف التقليدية، مع فتح أبواب التطوير والتعليم.
كذلك، منحت المرأة دوراً أوسع في المجتمع: التعليم، العمل، وبعض المناصب — ما شكل نقلة نوعية في مجتمع محافظ.
بهذه السياسات، نشأت هوية عُمانية حديثة — تجمع بين الأصالة والقيم التقليدية، وبين الحداثة والانفتاح — ما ساهم في توحيد المواطنين من مختلف مناطق السلطنة بعد عقود من التباعد والتجزؤ.
---
سادساً: لماذا يُشبّه كثيرون عُمان بـ"سويسرا الخليج"؟
من الجمع بين العوامل أعلاه تبرز إجابة على هذا التشبيه
استقرار داخلي طويل المدى: عُمان لم تشهد نزاعات دموية داخلية بعد عهد قابوس — وتغير الحكم كان سلسًا (بعد وفاته تنازلت العائلة الحاكمة دون انقلاب).
دبلوماسية حيادية ومتوازنة: عُمان حافظت على علاقات مع جميع الأطراف، ولم تنجرّ إلى صراعات المنطقة.
تنمية متوازنة وشاملة: جودة حياة جيدة، تعليم، صحة، خدمات — ما يسمح بأن يعتبرها كثيرون دولة ذات رفاه اجتماعي نسبياً مقارنة بدول مجاورة.
تفجير الإمكانيات قبل أن تنضب مصادر النفط: قابوس بدأ بتأسيس قواعد لدولة لا تعتمد فقط على نفط الغاز، فاتجه نحو السياحة، الصناعة، الخدمات، التعليم — ما ضمن استدامة الدولة.
لهذه الأسباب، وصف الإعلام الغربي وبعض المحللين عُمان بأنها "سويسرا الخليج" — أي دولة مستقرة، محايدة، مستقرة اقتصادياً، ذات مستوى معيشة مرتفع، ودبلوماسية حكيمة.
سابعاً: التحديات التي واجهتها عُمان وكيف تغلبت
رغم الإنجازات، كان طريق النهضة ليس خالياً من التحديات
الاقتصاد: الاعتماد الكبير على النفط والغاز — وهو مورد محدود — دفع قابوس وبقي بعده إلى التفكير في التنويع الاقتصادي
التعليم والتوظيف: مع ارتفاع الأجيال المتعلمة ظهرت حاجة لتوفير وظائف، ما دفع إلى إنشاء صناديق دعم للمشاريع الصغيرة والمتوسطة.
الحفاظ على الهوية والمجتمع: التحديث والانفتاح فرضا توازنًا دقيقًا بين التقاليد والتجديد، ونجحت عُمان إلى حد كبير في ذلك
قصة السلطان قابوس بن سعيد ليست قصة سلطان فقط، بل قصة وطن عرف كيف يُعيد تشكيل نفسه بذيّة من إرادة، حكم رشيد، ورؤية واضحة. تحت قيادته، تحوّل الفقر والإهمال إلى إنجازات تنموية متتالية، وتحولت العزلة إلى انفتاح، والصحراء إلى طرقات، والمدن إلى مراكز حضارية، وتحولت عُمان إلى دولة يعترف بها العالم كرمز للسلام والوسطية.
إذا كانت "سويسرا الخليج" وصفًا حقًّا لعُمان، فهو وصف يستحقه — ليس فقط لجمال الطبيعة، بل لاستقرارها، لدبلوماسيتها المتزنة، ولجميل ما بناه قابوس من مؤسسات تنموية واجتماعية.
إن إرث قابوس ممتد في مدارج التعليم، في مستشفيات، في طرق تربط القرى بالمدن، في شبكة إدارية حداثية — ليس فقط لعُمان، بل لمن ينظر إلى منطقة مضطربة كـ الخليج والعالم العربي، بعين الأمل والتجديد.







0 commentaires:
Publier un commentaire