un

astuces

Blogroll

samedi 13 décembre 2025

ريما بنت بندر بن سلطان

 عندما تُذكر قصة تمكين المرأة في المملكة العربية السعودية ضمن إطار رؤية السعودية 2030، فإن أولى الأسماء التي تتبادر إلى الذهن — بلا شك — هي ريما بنت بندر بن سلطان آل سعود. لقد جسّدت ريما — عبر مسيرتها المتنوعة في مجالات الاقتصاد، الرياضة، العمل الاجتماعي، والدبلوماسية — نموذجًا حيًّا لإمكانية المرأة السعودية في شغل أرفع المناصب، وقيادة مبادرات تغير الواقع الداخلي والخارجي للمملكة. في هذا التقرير، نسلط الضوء على محطات بارزة في حياتها ومسيرتها، ونحلّل كيف أصبحت ريما رمزًا لتمكين المرأة، وعاملًا مؤثرًا في إعادة رسم صورة المملكة داخليًا وخارجيًا 



أولًا: النشأة والتعليم والخلفية 


ولدت ريما بنت بندر بن سلطان عام 1975 في الرياض، وكانت جزءًا من أسرة لها حضور دبلوماسي وسياسي؛ والدها الأمير بندر بن سلطان آل سعود شغل منصب سفير المملكة في الولايات المتحدة لسنوات، ما مكّن ريما من أن ترعرع في بيئة دولية وسياسية 


هذه الخلفية — تعليمية وعائلية — شكلت قاعدة صلبة لصياغة رؤيتها وطموحها المهني، وأعطتها قدرة على التنقّل بين ثقافات، واحتراف الحياة العامة، وهو ما بدا واضحًا في مسيرتها لاحقًا


ثانيًا: من القطاع الخاص إلى تمكين المرأة في بيئة العمل 


بعد عودتها إلى المملكة، دخلت ريما عالم الأعمال: شغلت منصب الرئيس التنفيذي في شركة ألفا إنترناشيونال المحدودة — هارفي نيكولز الرياض، وهي من كبريات شركات التجزئة في مجال السلع الفاخرة. 


من خلال منصبها هذا، تعاونت مع وكالة توظيف متخصصة في النساء، لإجراء دراسة حول الحواجز التي تواجه النساء في سوق العمل. النتيجة كانت فتح أول حضانة داخل متجر بيع بالتجزئة — خطوة تمكينية مكنت نساء كثيرات من الجمع بين العمل ورعاية الأطفال. 

إضافة إلى ذلك، أسّست ريما مَنظمة اجتماعية تحت اسم ألف خير، تهدف إلى «تنمية رأس المال المهني للمرأة السعودية» عبر برامج تدريبية ومهنية، ما يعكس رؤيتها للاستثمار في الإنسان الفلسطيني الداخلي وتمكين المرأة اقتصاديًا. 

بهذا، اتخذت ريما من القطاع الخاص منصة لتطبيق مبدأ تمكين المرأة عمليًا — ليس فقط بالتوظيف، بل بتسهيل التوازن بين العمل والحياة الأسرية.


ثالثًا: الرياضة — تمكين المرأة جسديًا ومجتمعيًا 


في عام 2000، ساهمت ريما في تأسيس نادٍ نسائي رياضي يدعى نادي يبرين، وهو من أوائل الأندية التي منحت النساء السعوديات مساحة للممارسة الرياضية. 


ثم تحوّلت إلى العمل الرسمي في السلك العام: في أغسطس 2016 تم تعيينها وكيلة شؤون المرأة في الهيئة العامة للرياضة، لتقود جهودًا لتوسيع مشاركة المرأة في الرياضة المدرسية والمجتمعية. 


في يناير 2018 تمت ترقيتها لتكون وكيلة التخطيط والتطوير، ثم في أكتوبر 2018 أصبحت أول امرأة تتولى رئاسة الاتحاد السعودي للرياضة المجتمعية — أول اتحاد متعدد الرياضات في المملكة يُديره شخص من النساء. 


من خلال هذه المناصب، ساهمت في فتح آفاق أمام الفتيات والشابات لممارسة الرياضة، وكسر الحواجز الاجتماعية التقليدية، بما يتوافق مع روح رؤية 2030 في تنمية الإنسان وتمكين المرأة في كافة المجالات.


هذه الخطوة جعلت من المرأة السعودية أكثر حضورًا في الرياضة، ليس كمشجعة فقط، بل كلاعبة ومنظمة — ما يعكس تحولًا ثقافيًا واجتماعيًا مهمًا.

رابعًا: العمل الاجتماعي – توعية ورعاية مجتمعية.


إضافة إلى مساهماتها الاقتصادية والرياضية، لعبت ريما دورًا مهمًا في العمل الخيري والمجتمعي: كانت من مؤسسي جمعية زهرة للتوعية بسرطان الثدي، والتي نظّمت إحدى أكبر حملات التوعية، شملت تشكيل «أكبر شريط وردي بشري في العالم» داخل جامعة سعودية — إنجاز أُدرج في موسوعة الأرقام القياسية. 

 

عبر زهرة ومساهماتها الأخرى، دعمت الوعي الصحي، والخدمات الاجتماعية، وسعت إلى إشراك المجتمع المدني — خليط من الدعوة للتغيير والتحسيس بقضايا المرأة والطفل والأسرة. 

 

كذلك، كان لها دور في تنمية رأس المال البشري من خلال برامج تدريبية ومهنية عبر مؤسسة «ألف خير»، ما يعزز مفهوم أن التنمية لا تقتصر على البنية التحتية أو النفط، بل على الإنسان أولًا. 

 

بالتالي، لم تكن ريما مهتمة بالظهور فقط أو المنصب، بل بتحقيق أثر فعلي ومستدام في المجتمع السعودي.


خامسًا: الدبلوماسية — أول امرأة تُمثل السعودية على أعلى مستوى في واشنطن 


في 23 فبراير 2019، صدر أمر ملكي بتعيين ريما بنت بندر سفيرة للمملكة لدى الولايات المتحدة الأمريكية — لتصبح أول امرأة في تاريخ السعودية تحظى بهذا المنصب الدبلوماسي الرفيع. 


تعيينها كان بمثابة رسالة من المملكة — داخليًا وخارجيًا — أنها جدية في تمكين المرأة، وأن النساء لسن فقط جزءًا من الإصلاح الثقافي الاجتماعي، بل قد تقود دولة على الساحة الدولية. 


وهي بخلفيتها المتعددة — ثقافية، اجتماعية، رياضية — جاءت كأنسب من تمثل السعودية في واشنطن؛ إذ تعرف الثقافة الغربية، ولديها خبرة في ريادة الأعمال والعمل المجتمعي، ما يمنحها مصداقية أمام الطرف الأمريكي والدولي.


من خلال هذا المنصب، أصبحت ريما صوتًا سعوديًا نسائيًا رفيعًا على الساحة الدولية — وكأنها جسرت بين التجربة المحلية السعودية والرؤية العالمية للمستقبل 

الأميرة ريما بنت بندر بن سلطان ليست مجرد سيدة شغلت منصبًا دبلوماسيًا مرموقًا، بل هي رسالة متكاملة — رسالة تمكين، تغيير، تطور. من نادٍ رياضي نسائي صغير إلى كبرى منصات التجارة الخاصة؛ من حملات توعية مجتمعية إلى أعلى منصب دبلوماسي؛ من طفلة نشأت في ردهات السفارات إلى سفيرة تمثل بلدها أمام أعظم قوة عالمية: الولايات المتحدة.


lundi 8 décembre 2025

 

لم تكن الملكة تيي مجرد زوجة لملك عظيم مثل أمنحتب الثالث، ولا مجرد أم لواحد من أكثر فراعنة مصر إثارة للجدل مثل إخناتون، بل كانت قوة سياسية وروحية هائلة استطاعت أن تُعيد تشكيل ملامح الحكم في مصر القديمة خلال القرن الرابع عشر قبل الميلاد. تميّزت بحضورها الطاغي، ومعرفتها الواسعة، ودورها المؤثّر في الدبلوماسية والعقيدة والإدارة. تكشف النقوش والبرديات والآثار أن تيي كانت شخصية استثنائية تتجاوز مكانة "الزوجة الملكية"، لتصبح شريكة حقيقية في الحكم، وفاعلاً مؤثراً في مسار الأحداث الكبرى التي مرّت بها مصر في تلك المرحلة.
هذا التقرير يستعرض حياتها في صورة بحثية مترابطة، ويسلط الضوء على نشأتها، وصعودها، وقوتها السياسية، ومكانتها الدينية، وعلاقتها بعصر العمارنة، في سرد تاريخي دقيق واستثنائي



أولاً: الأصول والنشأة

نشأت الملكة تيي في عائلة ذات نفوذ من إقليم أخميم، وكانت ابنة يويا، أحد أهم رجال الدولة وربما ذو أصول غير مصرية خالصة، وتويا الكاهنة المرتبطة بالطقوس الملكية. الجمع بين خلفية يويا الدبلوماسية ومكانة تويا الدينية منح تيي تربية مميزة جعلتها تقف بسهولة على بوابة البلاط الملكي.
أظهرت تيي منذ صغرها مستوى مرتفعاً من التعليم، وخاصة في مجالات الإدارة واللغة والطقوس، وهو ما ساعدها لاحقاً على ممارسة نفوذ حقيقي داخل القصر. كما تشير الشواهد إلى أنها كانت تتمتع بشخصية قوية وذكاء لافت، الأمر الذي جعلها مرشحة مثالية لارتقاء مكانة ملكية رفيعة.


ثانياً: زواجها من أمنحتب الثالث وصعودها إلى السلطة

حين تزوجت تيي من الملك الشاب أمنحتب الثالث، لم يكن هذا الزواج مجرد تحالف عائلي، بل كان خطوة ساهمت في تغيير شكل الحكم. فقد ظهرت منذ السنوات الأولى لحكمه بوصفها “الزوجة الملكية العظمى”، وهو لقب يعطي صاحبه نفوذاً سياسياً واسعاً.
كانت صورها تظهر إلى جانب الملك بحجم يماثله، في خطوة غير مألوفة في الفن المصري الذي كان يحرص عادة على إبراز الملك وحده بحجم أكبر. هذا التطور الفني يعكس مكانتها المتقدمة في الدولة. كما لعبت دوراً مباشراً في المشاريع الكبرى مثل تشييد القصور والمعابد، وشاركت في الاحتفالات الرسمية لتجديد شباب الملك، وهو حدث ديني سياسي بالغ الأهمية.


ثالثاً: السلطة السياسية والدبلوماسية

تذكر الرسائل الدبلوماسية المعروفة باسم رسائل العمارنة مراسلات بين تيي وملوك أجانب، ما يدل على أنها لم تكن مجرد رمز، بل كانت تدير ملفات سياسية معقّدة بنفسها.
بعد وفاة أمنحتب الثالث، ظل نفوذها قائماً بقوة، إذ واصلت مراسلة ملوك الحيثيين والميتانيين، وكانوا يخاطبونها باحترام بالغ، بل إن بعضهم كان يرسل لها الهدايا مباشرة. تقول إحدى الرسائل إن ملك ميتاني طلب رأيها في نزاع داخلي، وهو أمر لم يحدث مع أي ملكة قبلها.
حتى بعد تولّي ابنها العرش، احتفظت بمكانة سياسية جعلتها أشبه بـ حاكمة مساندة داخل الدولة، وتظهر بعض النقوش أنها كانت تُستشار في القرارات الكبرى في سنوات حكم إخناتون الأولى




رابعاً: مكانتها الدينية ودورها الروحي

لعبت تيي دوراً محورياً في الطقوس الدينية، ليس فقط لأنها زوجة الملك، بل لأن نسبها المرتبط بكهنة أخميم أعطاها حضوراً روحياً قوياً.
شهدت فترة حكمها بروزاً أكبر لعبادة الإله آمون، لكنها كانت أيضاً شاهدة على التحولات التي مهّدت لاحقاً لعصر إخناتون. بعض الباحثين يرى أن تيي ساهمت بطريقة غير مباشرة في قبول فكرة توحيد العبادة حول إله واحد رمزي، إذ كانت على علاقة قوية بالكهنة والإداريين، ما جعل نفوذها واسعاً في كل اتجاه.
عُثر على تماثيل عديدة لها في المعابد الكبرى، وأحياناً تُظهرها التماثيل في وضعية المساواة مع الملك في أداء الطقوس، وهو أمر استثنائي في تلك الفترة.


خامساً: علاقتها بإخناتون ودورها في بداية عصر العمارنة

كان إخناتون الابن المحبّ لوالدته، ويُعتقد أنه تأثر بأفكارها وشخصيتها في مراحل مبكرة. بعد توليه الحكم، كانت تيي واحدة من أهم المرشدين له، وحافظت على مكانتها داخل القصر الجديد.
تدل النقوش في تل العمارنة على زياراتها المتكررة للعاصمة الجديدة، حيث كان إخناتون يستقبلها بنفسه في الاحتفالات الكبرى. كما تشير بعض الأدلة إلى أنها كانت الوسيط بين البلاط الجديد وبين القوى التقليدية في طيبة التي رفضت تغيير العقيدة.
في إحدى اللوحات العمارنية تظهر تيي في قارب ملكي مستقل، وهو رمز يعبّر عن مكانتها الخاصة ونفوذها المستمر رغم التحولات العقائدية المثيرة للجدل التي أطاحت بسلطة كهنة آمون.


سادساً: السنوات الأخيرة والوفاة

تختلف الآراء حول سنة وفاة الملكة تيي، لكن المرجّح أنها عاشت فترة طويلة بعد وفاة زوجها وربما شهدت الجزء الأكبر من حكم إخناتون.
عُثر على مومياء يُعتقد بقوة أنها تخصّ الملكة تيي داخل خبيئة المومياوات في وادي الملوك، وقد أكدت الفحوصات أن صاحبة المومياء كانت امرأة قوية البنية، ذات ملامح متناسقة، وذات صلة وراثية مباشرة بإخناتون.
تكشف المومياء عن عناية كبيرة بالجسد، وعن مكانة كانت محفوظة لها حتى بعد رحيلها، ما يدل على الاحترام الهائل الذي حظيت به طوال حياتها وبعد مماتها.


سابعاً: إرث الملكة تيي وأثرها في التاريخ المصري

لا تزال تيي إحدى أكثر الملكات تأثيراً في تاريخ مصر القديمة. فقد جمعت بين الحكمة السياسية والحنكة الدبلوماسية والتأثير الديني، وكانت أول ملكة في تاريخ مصر يتعامل معها الملوك الأجانب كصاحبة سلطة مستقلة.
إرثها لا يظهر فقط في فترة حكم زوجها أو في شخصية ابنها، بل في المسار التاريخي لمصر خلال تلك الحقبة التي شهدت تفاعلاً بين القوى الدينية والسياسية، وكانت تيي في قلب كل هذه التحولات.


الخاتمة

إن قصة الملكة تيي ليست مجرد رواية لامرأة عاشت في زمن الفراعنة، بل هي شهادة على قدرة الفرد على تغيير مجرى التاريخ عندما يمتلك الإرادة والذكاء والشجاعة. لقد أثبتت أن دور المرأة في الحكم يمكن أن يكون محورياً، وأن تأثيرها يمكن أن يمتد عبر الأجيال.
من خلال ما تركته من نقوش ورسائل وآثار، تظهر لنا تيي بصوت قوي ما زال صداه يتردّد حتى اليوم، حاكياً عن ملكة لم تكن تتبع الأحداث بل كانت تصنعها. وما زال الباحثون يكتشفون المزيد من أسرارها، مما يجعلها إحدى أكثر الشخصيات الفرعونية إثارة وعمقاً في الذاكرة الإنسانية.

samedi 6 décembre 2025

السلطان قابوس بن سعيد القائد الرجل الذي غيّر وجه عُمان

 عندما نتصفح صفحات التاريخ العربي المعاصر، نادراً ما نجد تجربة حكم تحولت فيها دولة “معزولة” جغرافياً واجتماعياً إلى نموذج استقرار وازدهار في أقل من جيل واحد. السلطان قابوس بن سعيد كان ذلك القائد  الرجل الذي غيّر وجه عُمان، برؤية واضحة، قيادة حازمة، وأفق إصلاحي لم يكن مألوفًا في المنطقة



منذ اعتلائه العرش في عام 1970، أعلن قابوس بداية عهد جديد: عهد نهضة شاملة  في البنية التحتية، التعليم، الصحة، الانفتاح على العالم والدبلوماسية الهادئة. وعُمان، التي كانت قبل ذلك تُشبه قرية كبيرة متناثرة، تحولت إلى دولة حديثة تستقطب الاهتمام الدولي وتُضاهي دولاً تجاوزت عمرها قرون.

في هذا التقرير سنستعرض كيف قاد قابوس هذا التحول، وما ملامح "سويسرا الخليج" التي أشارت إليها عدة كتابات دولية عند وصفها لعُمان في عهده

:أولاً: خلفية الوضع في عُمان قبل قابوس — من العزلة إلى نقطة الانطلاق

قبل عام 1970 كانت عُمان — وفق مصادر متعددة — دولة تعاني من نقص كبير في البنية التحتية: عدد محدود من المدارس، مستشفى أو اثنين، طرق ربط شبه معدومة ومناطق نائية تفصلها الصحراء والجبال. 

الاقتصاد كان قائماً على الزراعة التقليدية والصيد، ومعظم السكان يعيشون حياة بسيطة، غائبين عن أنماط التنمية الحديثة. 

كذلك، من الناحية السياسية والإدارية، لم تكن هناك مؤسسات دولة حديثة مثل الحكومة، الوزارات، مؤسسات التخطيط، أو إدارة مدنية منظمة. 

هذه الخلفية توضح أن قابوس لم يستلم “دولة متعثرة” فحسب، بل أرضًا شبه جاهزة لإعادة البناء من الصفر — الأمر الذي جعل قراراته الإصلاحية مسألة حياة أو موت للمجتمع العُماني.


ثانياً: النهضة الشاملة  إنجازات قابوس في البنية التحتية والخدمات

عند تسلّمه الحكم عام 1970 بعد الإطاحة بوالده في ما عرف بـ"انقلاب 23 يوليو" 1970، بدأ قابوس فوراً سلسلة من الإصلاحات التي حولت عُمان بشكل جذري. 



أنشأ قابوس العديد من المدارس في مختلف المناطق، حتى في المناطق النائية، مما زاد من معدل معرفة القراءة والكتابة في السلطنة. 

في 1986 أسّس Sultan Qaboos University كرمز للتعليم العالي، ما فتح آفاقًا لشباب عماني متعلم قادر على قيادة المستقبل. 

في القطاع الصحي: تم بناء مستشفيات وعيادات في مختلف محافظات عُمان، وتدريب الكوادر العمانية لتقديم خدمات صحية حديثة، ما رفع مستوى معيشة المواطن وأدى إلى خفض الأمراض. 

تم بناء شبكة طرق ربط شاملة بين مدن وقرى السلطنة. على سبيل المثال، الطريق الرئيسي المعروف N5 road (Oman) افتتح في عام 1974، وربط العاصمة مسقط بحدود الإمارات، ممهداً لتحوّل اقتصادي كبير في المناطق التي يمر بها. 

تم تحديث وسائل النقل: موانئ جديدة، مطارات دولية، شبكات اتصالات حديثة، ما جعل عُمان أقل عزلة وأكثر اندماجاً مع العالم. 

كما شملت جهود التنمية مشاريع لتحلية المياه والكهرباء، وتحسين مستوى الخدمات الأساسية في المدن والريف. 


استُخدمت عائدات النفط لدعم مشاريع تنموية، وتحويل الاقتصاد من الزراعة إلى تنويع القطاعات: الصناعة، الخدمات، السياحة، التجارة، وتمكين القطاع الخاص. 

أنشئت مؤسسات لدعم الشباب وريادة الأعمال، مثل صندوق دعم المشاريع الشبابية الذي ساهم في تمويل مشاريع صغيرة ومتوسطة بدأها عمانيون شباب. 

هذه الإصلاحات رفعت جودة الحياة، زادت من الفرص الوظيفية، وخفّفت من الفقر والبطالة — ما مهد لتكوين طبقة وسطى صاعدة ومتعلمة. 

---

ثالثاً: بناء الدولة الحديثة

السلطان قابوس أسّس أول حكومة مهيكلة (مجلس وزراء)، وأنشأ إدارات ومؤسسات: دفاع، خارجية، مالية، إدارة مدنية، ما أسّس نمط حكم عصري. 

في 1996، صدرت أول دستور لعُمان، الذي شرّع وجود جهاز تشريعي استشاري، ومنح شكل من المشاركة السياسية عبر انتخاب أعضاء المجالس الاستشارية — ما أرسى دعائم شرعية مواطنة ولو بشكل محدود. 

رغم أن السلطة بقيت مركّزة في العائلة الحاكمة، فإن قابوس أتاح مشاركة أوسع للمواطنين — من بينهم النساء — في بعض مؤسسات الدولة، ما شكّل تغييراً ثقافياً مقارنة بموروث العزلة الماضية. 


رابعاً: سياسة خارجية حذرة ومكانة دبلوماسية مميزة 

جزء كبير من لقب "سويسرا الخليج" يعود إلى ما ركّسه قابوس من سياسة خارجية معتدلة، متوازنة، ومستقلة:

فتح عُمان علاقات دبلوماسية موسّعة مع الدول العربية والعالم، وانضمت إلى منظمات دولية، ما أنهى عزلة السلطنة. 

حافظت عُمان على علاقات طيبة مع دول متباينة سياسياً — حتى تلك المتأزمة مع بعضها في الخليج أو دولياً — ما جعلها منصة لحوار ودبلوماسية ناعمة. 

على مدى سنوات، استخدمت عُمان نفوذها كوسيط أو قناة تفاهم في قضايا إقليمية ودولية، الأمر الذي أكسبها احتراماً دولياً ومكانة متميزة. 

بهذا، أصبحت عُمان — تحت قيادة قابوس — مثالاً لدولة مستقرة، محايدة، ومحبوبة دولياً، يشبهها كثيرون بدول مختارة مثل سويسرا في استقرارها وحيادها.

---

خامساً: بناء هوية وطنية بين التقاليد والانفتاح

مع التحديث لم تنسَ عُمان تراثها: السلطان قابوس اهتم بالحفاظ على الثقافة العُمانية، التراث، الفنون، والحرف التقليدية، مع فتح أبواب التطوير والتعليم. 

كذلك، منحت المرأة دوراً أوسع في المجتمع: التعليم، العمل، وبعض المناصب — ما شكل نقلة نوعية في مجتمع محافظ. 

بهذه السياسات، نشأت هوية عُمانية حديثة — تجمع بين الأصالة والقيم التقليدية، وبين الحداثة والانفتاح — ما ساهم في توحيد المواطنين من مختلف مناطق السلطنة بعد عقود من التباعد والتجزؤ.

---

سادساً: لماذا يُشبّه كثيرون عُمان بـ"سويسرا الخليج"؟

من الجمع بين العوامل أعلاه تبرز إجابة على هذا التشبيه

استقرار داخلي طويل المدى: عُمان لم تشهد نزاعات دموية داخلية بعد عهد قابوس — وتغير الحكم كان سلسًا (بعد وفاته تنازلت العائلة الحاكمة دون انقلاب). 

دبلوماسية حيادية ومتوازنة: عُمان حافظت على علاقات مع جميع الأطراف، ولم تنجرّ إلى صراعات المنطقة. 

تنمية متوازنة وشاملة: جودة حياة جيدة، تعليم، صحة، خدمات — ما يسمح بأن يعتبرها كثيرون دولة ذات رفاه اجتماعي نسبياً مقارنة بدول مجاورة. 

تفجير الإمكانيات قبل أن تنضب مصادر النفط: قابوس بدأ بتأسيس قواعد لدولة لا تعتمد فقط على نفط الغاز، فاتجه نحو السياحة، الصناعة، الخدمات، التعليم — ما ضمن استدامة الدولة. 

لهذه الأسباب، وصف الإعلام الغربي وبعض المحللين عُمان بأنها "سويسرا الخليج" — أي دولة مستقرة، محايدة، مستقرة اقتصادياً، ذات مستوى معيشة مرتفع، ودبلوماسية حكيمة. 


سابعاً: التحديات التي واجهتها عُمان وكيف تغلبت 

رغم الإنجازات، كان طريق النهضة ليس خالياً من التحديات

الاقتصاد: الاعتماد الكبير على النفط والغاز — وهو مورد محدود — دفع قابوس وبقي بعده إلى التفكير في التنويع الاقتصادي 

التعليم والتوظيف: مع ارتفاع الأجيال المتعلمة ظهرت حاجة لتوفير وظائف، ما دفع إلى إنشاء صناديق دعم للمشاريع الصغيرة والمتوسطة. 

الحفاظ على الهوية والمجتمع: التحديث والانفتاح فرضا توازنًا دقيقًا بين التقاليد والتجديد، ونجحت عُمان إلى حد كبير في ذلك 


قصة السلطان قابوس بن سعيد ليست قصة سلطان فقط، بل قصة وطن عرف كيف يُعيد تشكيل نفسه بذيّة من إرادة، حكم رشيد، ورؤية واضحة. تحت قيادته، تحوّل الفقر والإهمال إلى إنجازات تنموية متتالية، وتحولت العزلة إلى انفتاح، والصحراء إلى طرقات، والمدن إلى مراكز حضارية، وتحولت عُمان إلى دولة يعترف بها العالم كرمز للسلام والوسطية.

إذا كانت "سويسرا الخليج" وصفًا حقًّا لعُمان، فهو وصف يستحقه — ليس فقط لجمال الطبيعة، بل لاستقرارها، لدبلوماسيتها المتزنة، ولجميل ما بناه قابوس من مؤسسات تنموية واجتماعية.

إن إرث قابوس ممتد في مدارج التعليم، في مستشفيات، في طرق تربط القرى بالمدن، في شبكة إدارية حداثية — ليس فقط لعُمان، بل لمن ينظر إلى منطقة مضطربة كـ الخليج والعالم العربي، بعين الأمل والتجديد.