سمعت كثيرا عن زغوان.. عن مياهها المعدنية الاستشفائية، عن جبلها الذي يضرب به المثل، وعن مائها العذب الذي تروى حوله القصص، وعن حدائقها التاريخية، وصناعتها التقليدية، عن زهرة النسرين، ومعبد الماء، عن الآثار الرومانية، واللمسات الحرفية الأندلسية، وحلوياتها التقليدية، عن كهوفها العجيبة، وعن مأوى النسور، وعن الحنايا، وهي أسوار كانت تنقل الماء من زغوان إلى العاصمة تونس، وعن أشياء كثيرة مغروسة في وجدان أهالي زغوان.
ورغم ذلك، لم أزر زغوان إلا مؤخرا، ولم أزرها من أجل مآثرها التي ذكرت نزرا قليلا منها آنفا، وإنما لحضور مناسبة سياسية. لذلك تألمت كثيرا، لأمرين، الأول لأني لم أزر زغوان، قبل هذا الوقت وقد تجاوزت الأربعين، والثاني لأن الكاميرا أضربت عن العمل، وغالبا ما تفعلها لانتهاء البطاريات، أو لشيء في نفسها (ميكانيكيتها)، وقصصها كثيرة. وأذكر أني كنت في مدينة القيروان، لتصوير معلم أثري تم اكتشافه في أول عام 2011 وإذ بسيارة إسعاف تقف لنقل أحد المرضى (أعصاب) فظننت أنه من العمال ضحايا المقاولات فقمت بتصوير (الجنازة) ولم ألبث إلا والناس من حولي يحاولون افتكاك الكاميرا، ويطالبون بنزع الفيلم، (بينما الكاميرا رقمية)، وكادوا يفتكونها لولا بقية من أيام الكونفو، والآيكيدو. كان مرافقي الأستاذ راشد الظاهري، يعرف زغوان جيدا، لذلك فضل المرور على الآثار التاريخية وكان أولها «معبد المياه» الذي بناه الغزاة الرومان في عهد الإمبراطور هادربانوس، في الفترة ما بين 117 و138 وهو عبارة عن عين جارية في قمة الجبل، وقد بني عليها هيكل ضخم وبجانبها هرم أخضر.وقد تم إيصال الماء عن طريق حنايا (جسر) طولها 132 كيلومترا إلى العاصمة تونس. وتبلغ كميات المياه الواصلة للعاصمة من زغوان 32 مليون لتر يوميا. وتعد الحنايا من الآثار التاريخية، التي يضرب بها المثل، حتى قيل قديما «من لا تعجبه تونس، تعجبه الحنايا». ولأن التاريخ الأوروبي سلسلة من الحروب التي تنتهي لتبدأ، ولأنه كثيرا ما تناحر الأوروبيون على أراضي الغير، ليس آخرها الحربان العالميتان الأولى والثانية، فقد كانت تونس مسرحا لصراعات الأوروبيين فوق أراضيها، ومن بينهم الرومان والبيزنطيون والوندال الذين دمروا تونس كما فعل الرومان والبيزنطيون من قبل ومن ذلك تدمير الحنايا، ومشروع المياه الذي بناه الرومان، ولكن الخليفة المستنصر بالله الحفصي، أعاد بناء الحنايا من جديد، بل بأفضل مما كانت عليه، وذلك في القرن الثالث عشر الميلادي، مستفيدا من تقنيات عصره، والتي سمحت له بسقي متنزهات رأس الطابية، وجنان أريانة، وتوفير الماء لجامع الزيتونة المعمور. كما زرنا القوس الروماني، وهو في حالة تحتاج لترميم وعناية، وعلمنا أنه كانت هناك أقواس كثيرة اندثرت، بينما لا تزال إحدى الزوايا الصوفية قائمة في عنفوان، وهي زاوية سيدي علي عزوز التي تعد تحفة معمارية مهيبة، ومعلم سياحي جدير بالزيارة، لا سيما عشاق النقوش البديعة، والصور الرائعة، والأفنية المخملية. ولا يمكن لزائر زغوان أن يغادرها قبل زيارة كهوفها الرهيبة التي تم اكتشافها قبل أكثر من 5 عقود، بجبل زغوان على بعد 10 كيلومترات من المدينة. ويبلغ عدد الكهوف الساحرة 25 كهفا، وبها أفضل أنواع الجبس في العالم، وتعد المكسيك، وفرنسا، وبريطانيا، وتونس، الدول الوحيدة التي تملك مقاطع من هذا النوع. كما توجد 25 مغارة، منها مغارة معبد المياه، ومغارة سيدي بوقبرين البحري ومغارة وادي الدالية، وبعض المغارات تعود إلى 8 آلاف سنة خلت. وكهوف ومغارات زغوان لا تحتوي على أي نوع من الحشرات، فضلا عن الحشرات السامة، ولذلك تعد من المتنزهات الترفيهية والبحثية على حد سواء، ويفضل زيارتها في الصيف لأن الأجواء بداخلها باردة. عدنا إلى مدينة زغوان، والواقعة على سلسلة من الهضاب المنخفضة نسبيا، لذلك تشبه شوارعها بعض مدن أوروبا الشرقية، وبعض بلدات إسبانيا، وإيطاليا، بل بعض مدن آسيا الباردة، ولا سيما الجبلية منها. وأول ما يلفت نظر السالك في شوارع زغوان، كثرة مياه السبيل، وهناك كلمة لا يمكن أن تسمعها سوى من تونسي، وهي الدعاء لك بالشفاء بعد انتهائك من شرب الماء بالشفاء. كما يلفت انتباهك بعض المنسوجات المعروضة في محلات متواضعة، حيث تشتهر زغوان بالصناعات الصوفية، لتوفر المرعى للأغنام. وإن كان هناك من سؤال يتبادر إلى ذهن زائر زغوان، فهو عدد السكان القليل مقارنة بغنى الأرض وخصوبتها، وقدم الوجود الإنساني بها (مائة ألف سنة) ومساحة المنطقة الواقعة على 5 آلاف كيلومتر مربع، حيث لا يتجاوز عدد سكان مدينة زغوان العشرين ألف ساكن، وبها دار شباب، وملعب بلدي، وقاعة رياضية مغطاة، وملعب، ومكتبة عمومية، وناد إعلامي موجه للطفل، و6 رياض أطفال، و6 مدارس ابتدائية و4 مدارس إعدادية، ومعهدان ثانويان. وفي زغوان مستشفى جهوي، ومركز للصحة الأساسية، ومركز لرعاية الأم والطفل، ومركز للتنظيم الأسري. ورغم أن المنطقة سياحية فإنه لا يتوفر في زغوان سوى فندق واحد، ومطعم سياحي واحد، وهو ما يوغر صدور أهالي المنطقة، ولا سيما المدينة التي تعاقب عليها أقوام وحضارات، ولكن لا يرى اليوم سوى أحفاد الأندلسيين الفارين من بلادهم بعد سقوطها في يد الإسبان. وقد وصلت أعدادهم الضخمة إلى تونس، ومنها زغوان، لذلك تعد المدينة ذات طابع أندلسي بأبوابها الزرقاء العتيقة، وحدائقها الغناء. ويعود الفضل للأندلسيين الذين حولوا زغوان إلى جنة خضراء مستفيدين من ثروتها المائية. كما يلاحظ الزائر في السوق العتيقة بزغوان البصمات الأندلسية من خلال صناعة الشاشية، والصباغة، وتقطير ماء زهور النسري، الذي أصبح سمة زغوان. وكذلك جلبوا معهم الحلويات التي تتميز بها المدينة، ومنها كعك الورقة، وصناعة السجاد بنوعية، المرقوم والزربية. وقال أحد مثقفي المدينة أحمد العروسي لـ«الشرق الأوسط»: «تقع زغوان على كنز من المياه المعدنية، والكبريتية، متوفرة في حمام جبل الوسط، وبه مركز استشفائي طبيعي، كما هناك حمام الزريبة، وحمام الجديدي، وهذه الحمامات المعدنية والكبريتية تقع في مثلث دائرة زغوان». ويشتكي أهالي زغوان من تهميش الثروات الطبيعية بها في العهد البائد، وكان من الممكن إقامة فنادق فخمة في المنطقة، ومراكز للعلاج الطبيعي، كما هو الحال في دول أخرى، لا سيما في أوروبا الشرقية، وتحديدا في البوسنة. ويتداول الأهالي نكات سياسية، مفادها «لو يتم تأجير زغوان لسويسرا، أو غيرها من الدول المهتمة بثرواتها لأصبح الدخول لزغوان بفيزا» (تأشيرة دخول). ويقول الأهالي، إن «مستوى تأهيل المياه الاستشفائية لتكون رافدا مهما لجلب السياح، لا يرقى لسقف الطموحات الإنمائية للناس، وهذا ما يحفز الحكومة الجديدة على إيجاد حلول استثمارية كبرى في المنطقة الغنية بالمياه بجميع أصنافها». ورغم أن بعض أهالي زغوان يتمتعون بالإعفاء من رسوم المياه، فإن هناك غضبا من قلة التعويضات، لأن تحويل المياه إلى أماكن بعيدة يؤثر على كمية الماء الموجهة للمزروعات، ولا سيما الغلال التي يزرع منها في المنطقة 9 أنواع، للغلة الواحدة. وهناك مهرجان زهرة النسري، ويبلغ سعر الكيلو الواحد حاليا أكثر من 30 دينارا. ولارتفاع سعر الماء الذي كانت الحكومات السابقة تبيعه للسكان يطالب الأهالي بالعودة لطواحين الهواء. وهناك رسالة دكتوراه في هذا الغرض. فزغوان ثاني مدينة في العالم في مسارب المياه، وهندسة قنوات المياه جاءت مع الأندلسيين، فزغوان هي مركز المورسكيين. ويطالب الأهالي بترميم هذه البنايات القديمة حيث لا يكلف ذلك كثيرا بالنسبة للدولة، كما أن 55 في المائة من الأراضي في زغوان هي ضمن أملاك الدولة. عبد الباقي خليفة |
0 commentaires:
Publier un commentaire